الثلاثاء، 28 مارس 2017

الإنسان والوعي - مدخل للتسلسل الزمني لمراحل الوعي منذ نشأة الإنسان الأولي.

الإنسان والوعي
مدخل للتسلسل الزمني لمراحل الوعي منذ نشأة الإنسان الأولي .

تمام محمد الشيباني

استطاع الإنسان على مدار أجيال من التطور البطيء نسبيا ان يتلائم مع الطبيعة وملامسة جوهرها من خلال التأمل والتفكير والاستنتاج الآني والزمني حسب مراحل عدة من الاحتياج ، هذا ما جعل له الأحقية بالإنتشار والتمدد حسب وسائله المتاحه للعيش والتطور واكتسابه الوعي . فكان بإمكانه ايجاد اساليبه الآنية للعيش وفق منظومة الحياة الشاملة  بما يحقق الانسجام الكامل مع مجتمع الافراد المتشابهون لذلك نجد ان الانسان البدائي استطاع استخدام مداركه الحسية وملامسة الصورة والتعامل مع المظهر الخارجي للأشياء  ولكل ما يحيط حوله وتوظيف الحي والجامد  في حياته البسيطة جدا فيما بعد. فمثلا رجل الكهف رأى من تجاويف الجبال مساكن ملائمة له دون الوصول لجوهر الحاجة الملحة في توفير مسكن من صنع يديه وفق المتاح وذلك لمحدودية التفكير لمجتمع البداء . لكن عندما وصل التفكير لمرحلة الإستدلال بالمحيط والبحث عن الجوهر من وجود ما حوله بدأ في استغلال الأحجار والأخشاب لصناعة الفؤوس ومن ثم المنازل الخشبية ومن ثم الأواني و... الخ والتحول الى الصيد بالأدوات المصنعة من يديه، هنا يتحول الإنسان من مرحلة الحس   "وعبادة الفتش" كما يصفها غيورغي غاتشف في كتابه الانسان والوعي *  والحصول على المتاح إلى مرحلة الإستدلال والإنتاج  بما يصاحب هذا التطور إكتساب الإنسان صفة الوعي النسبي مقارنة بمرحلة الوجود الأولى له على هذا النطاق البدائي التفكير والتكوين الاجتماعي .

ذكر غاتشف "إن أول درجة في سلم انفصال الإنسان عن عالم الحيوان هو نمط الحياة عرف فيه الإنسان جمع الثمار والصيد والبناء .. كان الإنسان شأن الحيوان لا ينتج شيئا بعد ، بل يكتفي بإستعمال ما يقع عليه جاهزا من ثمار الطبيعة . إلا أنه راح يدخر المؤونة ، أي لم يعد يتصرف مباشرة بدافع الجوع الملح الآن ، بل شرع يتحرر من سلطان اللحظة الراهنة . وبدلا من ردود الفعل الغريزية - الآلية ابتدأ نشاط وعيه . " 1

 لعل الاسباب التي جعلت من الانسان صاحب نفوذ في الطبيعة كانت هي نتاج التفكير والبحث عن الجوهر الحي للأشياء بما يتماشى مع المنطق أنذاك  والعمل للبدء بعملية الإستمرار دون الحاجة لأفكار سابقة وجدها غيره.

يقول لوسيف في كتابه الميثولوجيا القديمة :

" أصبح الإنسان يدرك المبدأ التقني - البنائي للشيء المعني ، أو للظاهرة المعنية من ظواهر الطبيعة ، وهو بذلك يفصل فكرة الشيء عن الشيء نفسه ، ويستطيع استخدام مبدأ هذا الشيء ، أو هذه الظاهرة ، ليقوم واعيا

بالخلق وبالانتاج من أجل استهلاكه الخاص " 2

**
استغرق الإنسان سنوات وربما قرون ليصل الى مراحل متطورة من الفكر والإنشقاق عن قانون الطبيعة الشامل لكل ماهو حي من كائنات في نفس الأرض ، ليبحث عن ماوراء الحياة الإعتادية وإستحضار دلالات تسيير كل ماهو موجود في محيطه من دورة حياة الكائنات وهطول الأمطار وتعاقب الليل والنهار والقمر والشمس ونمو الأشجار والظواهر الكونية والطبيعية ، حينها بدأ بالنفور عن رتابة العيش واتجه مباشرة نحو التأمل والتفكير لإيجاد تفسيرات تلائم طريقة تفكيره انذاك ، فالتجمعات البشرية تربطها محددات واتجاهات معينة تميزها عن غيرها كان لها استباقية التفسير للطبيعة فهي تعيش حالة من الضبابية تجاه خالق هذا الكون وليس لها اتصال مسبق بوحي غيبي يبين لها اسباب العيش في هذا الوجود.

فحين صرخ المولود لحظة الميلاد تم ربط التفسير واللحظة بأن هناك اله خلف تلك الصرخة مما جعل مجتمع ما بعد الكهف بتسمية إله اللحظة الآنية بإله "صرخة المولود" ، وإن ما دل هنا من تفسيرات دلالية إنما يدل على ربط التفسيرات الحية وليدة اللحظات المهمة في حياة الإنسان الأولي والى بحثه عن المكنون والسبب والنتيجة للتكرار المستمر في محيطه الطبيعي.

الإنسان الأولي لم يتجه الى تبرير كل ماهو موجود بفكرة الغيب الإلهي او ان هناك إله ليس بإمكانه رؤيته وملامسة وجوده ، اتجه مباشرة الى الإرتباط المباشر مع الطبيعة فمثلا حين استشعر الفرد بهطول الأمطار والرعد والبرق لامس مباشرة ظاهرة تجمع السحاب واكتضاضها ورماديتها الغامقة قبل الهطول ومن ثم ضربات الرعد ولمعان البرق وبعدها مباشرة نزول المطر فأستنتج ان هناك قوة كونية خارقة لها اليد في احداث عملية تبدأ بتجمع السحاب وهطول الأمطار اخيرا ، حينها اصبح الإيمان جماعي بتلك الظاهرة بعد تحليل اسبابها وتفسيرها واستنتاج من له سبب مباشر فيها ، هذا ماتوصل اليه مجتمع النرويج ووسط اوروبا قبل الاف السنين ، حينها تم تسمية الإله بأوفينوس صاحب المطرقة العظيمة التي بسببها تهطل الأمطار بعد ان يضرب بها على السماء فيحدث البرق ومن ثم الرعد .3  هذه احدى امثلة الآلهة التي اوجدها الإنسان بعيدا عن الغيب المطلق، وبإمتداد الحضارات في رقعة الأرض استطاعت ان تجد تفسيرات مناسبة لوجود الهة بسببه تحدث الظواهر الطبيعة ، نستطيع القول بأن الإنسان كانت فطرته استثنائة في التفكير وايجاد فرضيات ومسببات مايحيط به ليصل بعد ذلك لقناعة ان لكل نتيجة سبب اول، من خلاله تحدث ظواهر الكون والطبيعة ، لم يستعن الفرد في اي تجمع بشري اولي بكتب منزلة او نقوشات اثرية تركها له اشباهه فيما مضى بل حاول ان يدون كل حياته بما فيها ايمانه وقناعاته ومعتقداته الإستباقية لتصبح كمراجع اثرية لما قد يأتي من بعده من تجمعات وافراد جدد في الحياة.

المدهش في الأمر ان حضارات بلاد الرافدين من تجمعات بابلية وسومرية وأشورية وماجاورها من تجمعات كنعانية ان تصل لفكرة خالدة قبل نزول الكتب السماوية ومارافقها من رسالات ونبوات بعدها ، فكانت لها احقية الوصول الى فكرة غيبية وواقعية بنفس الوقت ، حين استدركت حضارات بلاد الرافدين وماجاورها بأن الإله استغرق ست ايام ليخلق الأرض والسماء ومن ثم تربع على العرش وشاهد انعكاس وجهه في ماء الأرض في اليوم السادس وتأمل كثيرا ليدشن الحياة في الأرض بعدها فخلق الطير والأشجار والكائنات واستمرت الحياة هكذا لفترة قبل ان يخلق الإنسان.

لعل استنتاجات الإنسان السومري والبابلي في عملية خلق الأرض كانت عظيمة لأنها مقاربة لماهو مكتوب في الصحاح اليهودية وسور القران ورسالات الإنجيل الثلاث وكذلك تفسيرات علماء جيل الإنفجار العظيم  ، فتقول الرواية بأن السماء واليابسة كانتا متلاحمتين  قبل حدوث إنفصالهما (الإنفجار العظيم كما استنتجه علماء الجيل العشرين ) فقبل الإنفصال كانت لالهة السماء واله الارض محادثة شهيرة تم تدوينها انذاك بألواح صخرية فبعد الأخذ والرد توصلا الى فكرة الإنفصال لظهور مولودهما الاول (اله الماء) ، ولتفاصيل قصة الخلق ستجدها عزيزي القارئ في كتاب مغامرة العقل الاولى لفراس السواح.

بالعودة الى ماذكر سابقا ، فإن الإنسان توصل لمقاربة مذهلة لما وجد في كتب السماء بعد ذلك بالاف السنين فكان صاحب الأسبقية في التفسير قبل النقل والتداول وقبل وإيمانه برسالات ونبوات وكتب غيبية ، بل كان له ايمان خاص بتفكيره واستنتاجاته وقناعاته ومعتقداته.

لم يؤمن الإنسان الأولي بالغيب المطلق بل لامس اتجاهاته الروحية وربطها مباشرة بمكنونات الوجود واستطاع ان يعي انه ليس بحاجة لكتب سابقة وليس بحاجة للإستعانة بأفراد ذات مكانة مجتمعية عالية ، بل كان لعقله وتأمله احقية اتخاذ القناعات المطلقة والسير في ما يتلائم مع المرحلة .






هوامش ومراجع



* عبادة الفتش أو الفتشية شيئا يقربها من كلمة الصنمية لكن الفتش لا يكون بالضرورة شيئا ملموسا يعبد أو يصنع ويعبر عن قدسية ما وإنما يدل على ارتباط الإنسان بالمظهر الخارجي للأشياء وقربه الكبير منها في تسيير حياته .

1- كتاب الوعي والإنسان والفن 1972 - غيروغي غاتشف  ،ص 19

2 - لوسيف، الميثولوجيا القديمة في تطورها التاريخي . موسكو 1957 . ص 14.

3 - رواية عالم صوفي . جوستاين غاردر . 1991

- مغامرة العقل الأولى - فراس السواح .









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جدارية صمت - 15 مارس 2017 صنعاء

"صمت" جدارية من اعمالي على الجدران في العاصمة صنعاء رسمت الجدارية في الحدث السنوي اليوم المفتوح للفن 15 مارس 2017 في العاصمة صن...